إن الناظر إلى واقعنا الحاضر يرى أنواعاً من التعلق بالشهوات والافتتان بها، فما أكثر المسلمين الذين أشربوا حب الشهوات من النساء والأموال، والملبوسات والمركوبات، والمناصب والرياسات، والولع بالألعاب والملاهي.وسوف نتحدث عن جملة من تلك الشهوات التي استحكمت بأفئدة كثير من الناس وعقولهم.
ومن المناسب أن نتحدث ابتداءً عن الموقف الصحيح تجاه الشهوات إجمالاً قبل الحديث عن بعض أفرادها تفصيلاً.
إن المسلك العدل إزاء الشهوات وسط: بين أهل الفجور ، وأصحاب الرهبانية؛ فأهل الفجور أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات؛ وأهل الرهبانية حرّموا ما أحل الله من الطيبات. ودين الله يراعي أحوال الناس، ويدرك ما هم عليه من الغرائز والشهوات؛ لذا فهو يبيحها ويعترف بها، لكنه يضبطها ويهذبها.
يقول ابن القيم مقرراً ذلك: [لما كان العبد لا ينفك عن الهوى ما دام حياً فإن هواه لازم له كان الأمر بخروجه عن الهوى بالكلية كالممتنع، ولكن المقدور له والمأمور به أن يصرف هواه عن مراتع الهَلَكة إلى مواطن الأمن والسلامة؛ مثاله أن الله لم يأمره بصرف قلبه عن هوى النساء جملة؛ بل أمره بصرف ذلك إلى نكاح ما طاب له منهن من واحدة إلى أربع، ومن الإماء ما شاء، فانصرف مجرى الهوى من محل إلى محل، وكانت الريح دبوراً فاستحالت صباً][ روضة المحبين، ص11].
واتباع الشهوات والانكباب عليها يؤول إلى استيلائها على القلب، فيصير القلب عبداً وأسيراً لتلك الشهوات، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [إن المتبعين لشهواتهم من الصور والطعام والشراب واللباس يستولي على قلب أحدهم ما يشتهيه حتى يقهره ويملكه، ويبقى أسير ما يهواه يصرفه كيف تصرّف ذلك المطلوب...].
وإذا كان الإفراط والانهماك في الشهوات مذموماً شرعاً، كما قال عز وجل :{ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا[59]}[سورة مريم] . فكذلك اتباع الشهوات مذموم عقلاً؛ فإن العاقل البصير ينظر في عواقب الأمور، فلا يُؤْثِرُ العاجلة الفانية على الآخرة الباقية، بل ينهى نفسه عن لذةٍ يعقبها ألم، وشهوة تُورث ندماً، وكفى بهذا القدر مدحاً للعقل وذماً للهوى.
وليعلم العبد أن الصبر عن الشهوات وما فيها من الإغراء والبريق والافتتان أيسر من الصبر على عواقب الشهوات وآلامها وحسراتها، كما بينه ابن القيم بقوله: [الصبر عن الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة، فإنها إما أن توجب ألماً وعقوبة، وإما أن تقطع لذة أكمل منها، وإما أن تضيع وقتاً إضاعته حسرة وندامة، وإما أن تثلم عرضاً توفيره أنفع للعبد من ثلمه، وإما أن تُذهب مالاً بقاؤه خير له من ذهابه، وإما أن تضع قدراً وجاهاً قيامه خير من وضعه، وإما أن تسلب نعمة بقاؤها ألذ وأطيب من قضاء الشهوة، وإما أن تطرق لوضيع إليك طريقاً لم يكن يجدها قبل ذلك، وإما أن تجلب هماً وغماً وحزناً وخوفاً لا يقارب لذة الشهوة، وإما أن تنسي علماً ذكره ألذ من نيل الشهوة، وإما أن تُشمت عدواً وتحزن ولياً، وإما أن تقطع الطريق على نعمة مقبلة، وإما أن تحدث عيباً يبقى صفة لا تزول؛ فإن الأعمال تورث الصفات والأخلاق][الفوائد، ص131].
من أنواع الشهوات:
1- شهوة النساء:
وأما عن شهوة النساء، أو بالأحرى شهوة الجنس عموماً فإن المتأمل في أحوال المسلمين فضلاً عمن دونهم يرى سُعاراً تجاه هذه الشهوات، وولوغاً في مستنقعاتها الآسنة، فما أكثر المسلمين العاكفين على متابعة الأطباق الفضائية وشبكة الإنترنت، وقد سمّروا أعينهم في سبيل ملاحقة برامج الفحش، وما أكثر الذين يشدّون رحالهم إلى بلاد الكفر والفجور في سبيل تلبية شهواتهم المحرمة.
لقد تكالب شياطين الإنس والجن مع النفوس الأمّارة بالسوء على إفساد عفاف المسلمين وأخلاقهم، قال سبحانه:{ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا[27]}[سورة النساء].
ومن أرخى لشهوته العنان؛ فإن سعار هذه الشهوة لا حد له ولا انقضاء، والمولع بشهوة الجنس بدون ضابط، أو رادع؛ لا يقف ولا يرعوي، يقول الشيخ علي الطنطاوي: [لو أوتيتَ مال قارون، وجسد هرقل، وواصلتك عشر آلاف من أجمل النساء من كل لون وكل شكل، وكل نوع من أنواع الجمال، هل تظن أنك تكتفي؟ لا، أقولها بالصوت العالي: لا.. أكتبها بالقلم العريض..ولكن واحدة بالحلال تكفيك. لا تطلبوا مني الدليل؛ فحيثما تلفّتم حولكم وجدتم في الحياة الدليل قائماً ظاهراً مرئياً][فتاوى علي الطنطاوي، ص146].
وفي الأدب الكبير، لابن المقفع: [اعلم أن من أوقع الأمور في الدين، وأنهكها للجسد، وأتلفها للمال، وأجلبها للعار، وأزراها للمروءة، وأسرعها في ذهاب الجلالة والوقار: الغرام بالنساء. ومن العجب أن الرجل لا بأس بلبّه ورأيه يرى المرأة من بعيد متلففة في ثيابها، فيصوّر لها في قلبه الحُسن والجمال حتى تعلق بها نفسه من غير رؤية ولا خبر مخبر، ثم لعله يهجم منها على أقبح القبح، وأدمّ الدمامة، فلا يعظه ذلك؛ ولا يقطعه عن أمثالها، ولا يزال مشغوفاً بما لم يذق، حتى لو لم يبق في الأرض غير امرأة واحدة، لظن أن لها شأناً غير شأن ما ذاق، وهذا هو الحمق والشقاء والسفه].
إن أشد الفتن وأعظمها: الفتنة بالنساء، فعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ]رواه البخاري ومسلم. قال الإمام طاووس عند قوله:{...وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا[28]}[سورة النساء] : [إذا نظر إلى النساء لم يصبر]. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: [لم يكن كفر من مضى إلا من قِبل النساء، وهو كائن كفر من بقي من قِبل النساء]. وهاك أخي القارئ حكايتين واقعيتين تكشفان أن من أسباب الكفر بالله: عشق النساء.
فأما الحكاية الأولى: فقد ساقها أبو الفرج ابن الجوزي بقوله: [بلغني عن رجل كان ببغداد يُقال له: صالح المؤذن، أذّن أربعين سنة، وكان يُعرف بالصلاح، أنه صعد يوماً إلى المنارة ليؤذن، فرأى بنت رجل نصراني كان بيته إلى جانب المسجد، فافتتن بها، فجاء فطرق الباب، فقالت: من؟ فقال: أنا صالح المؤذن، ففتحت له، فلما دخل ضمها إليه، فقالت: أنتم أصحاب الأمانات فما هذه الخيانة؟ فقال: إن وافقتني على ما أريد وإلا قتلتك. فقالت: لا؛ إلا أن تترك دينك، فقال: أنا بريء من الإسلام ومما جاء به محمد، ثم دنا إليها، فقالت: إنما قلت هذا لتقضي غرضك ثم تعود إلى دينك، فكُلْ من لحم الخنزير، فأكل، قالت: فاشرب الخمر، فشرب، فلما دبّ الشراب فيه دنا إليها، فدخلت بيتاً وأغلقت الباب، وقالت: اصعد إلى السطح حتى إذا جاء أبي زوّجني منك، فصعد فسقط فمات، فخرجت فلفّته في ثوب، فجاء أبوها، فقصّت عليه القصة، فأخرجه في الليل فرماه في السكة، فظهر حديثه، فرُمي في مزبلة][ ذم الهوى، ص 409].
أما الحكاية الثانية: فذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في حوادث سنة ثمان وسبعين ومائتين ما يلي:
[وفيها توفي عبده بن عبد الرحيم قبحه الله، ذكر ابن الجوزي أن هذا الشقي كان من المجاهدين كثيراً في بلاد الروم، فلما كان في بعض الغزوات والمسلمون يحاصرون بلدة من بلاد الروم، إذ نظر إلى امرأة من نساء الروم في ذلك الحصن، فهويها، فراسلها: ما السبيل إلى الوصول إليك؟ فقالت: أن تتنصر وتصعد إليّ، فأجابها إلى ذلك، فما راع المسلمين إلا وهو عندها، فاغتم المسلمون بسبب ذلك غماً شديداً، وشق عليهم مشقة عظيمة، فلما كان بعد مدة مروا عليه وهو مع تلك المرأة في ذلك الحصن، فقالوا: يا فلان ما فعل قرآنك؟ ما فعل علمك؟ ما فعل صيامك؟ ما فعل جهادك؟ ما فعلت صلاتك؟ فقال: اعلموا أني أُنسيت القرآنَ كله إلا قوله:{ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ[2]ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ[3]}[سورة الحجر]. وقد صار لي فيهم مال وولد][ البداية والنهاية، 11/64].
إن الولوغ في الفواحش وارتكابها له وسائل متعددة وأسباب كثيرة، وأدناها: سماع الأغاني؛ فإن الغناء رقية الزنا، وداعية الفاحشة.
وقال يزيد بن الوليد: [يا بني أمية! إياكم والغناء؛ فإنه ينقص الحياء، ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السّكْر، فإن كنتم لا بد فاعلين فجنّبوه النساء؛ فإن الغناء داعية الزنا][ انظر: إغاثة اللهفان، 1/369]. وقال ابن القيم: [ومن الأمر المعلوم عند القوم أن المرأة إذا استصعبت على الرجل اجتهد أن يُسمعها صوت الغناء، فحينئذٍ تعطي الليان]؛ [أما إذا اجتمع إلى هذه الرقية الدّف والشبابة والرقص بالتخنث والتكسر، فلو حبلت المرأة من صوت لحبلت من هذا الغناء.
فلعمر الله كم من حرة صارت بالغناء من البغايا، وكم من حرّ أصبح به عبداً للصبيان أو الصبايا، وكم من غيور تبدّل به اسماً قبيحاً بين البرايا، وكم من معافى تعرّض له فأمسى وقد حلّت به أنواع البلايا][ إغاثة اللهفان، 1/370، 371].
ومن أشد الوسائل فتكاً: النظر المحرم: فكم من نظرة إلى صورة جميلة في السوق، أو في شاشة، أو مجلة؛ أعقبت فواحش وآلاماً وحسرات. يقول ابن الجوزي: [اعلم-وفقك الله- أن البصر صاحب خبر القلب ينقل إليه أخبار المبصرات، وينقش فيه صورها، فيجول فيها الفكر، فيشغله ذلك عن الفكر فيما ينفعه من أمر الآخرة. ولما كان إطلاق البصر سبباً لوقوع الهوى في القلب، أمرك الشارع بغضّ البصر عما يُخاف عواقبه. قال الله تعالى:{ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ...[30]وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ...[31]}[سورة النور] . ثم أشار إلى مُسبب هذا السبب، ونبّه على ما يؤول إليه هذا الشر بقوله:{...وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ...[30]... وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ...[31]}[سورة النور].][ ذم الهوى، ص106].
وقد تحدث شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن النظر المحرم، وما يؤول إليه من الوقوع في الفواحش.. بل وقد ينتهي بصاحبه إلى الشرك بالله تعالى فكان مما قاله: [وأما النظر والمباشرة فاللمم منها مغفور باجتناب الكبائر، فإن أصر على النظر أو على المباشرة صار كبيرة، وقد يكون الإصرار على ذلك أعظم من قليل الفواحش؛ فإن دوام النظر بالشهوة وما يتصل به من العشق والمعاشرة والمباشرة أعظم بكثير من فساد زنا لا إصرار عليه؛ ولهذا قال الفقهاء في الشاهد العدل: أن لا يأتي كبيرة، ولا يصر على صغيرة. بل قد ينتهي النظر والمباشرة بالرجل إلى الشرك، كما قال تعالى:{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ...[165]}[سورة البقرة] . ولهذا لا يكون عشق الصور إلا من ضعف محبة الله وضعف الإيمان. والله تعالى إنما ذكره في القرآن عن امرأة العزيز المشركة، وعن قوم لوط المشركين][ مجموع الفتاوى، 15/292، 293].
وقال ابن القيم رحمه الله: [وقد جعل الله سبحانه العين مرآة القلب فإذا غضّ العبد بصره، غضّ القلب شهوته وإرادته، وإذا أطلق بصره أطلق القلب شهوته...- إلى أن قال-: والنظرة إذا أثّرت في القلب، فإن عجل الحازم، وحسم المادة من أولها؛ سهُل علاجه، وإن كرر النظر، ونقّب عن محاسن الصورة ونقلها إلى قلب فارغ فنقشها فيه؛ تمكنت المحبة، وكلما تواصلت النظرات كانت كالماء يسقي الشجرة، فلا تزال شجرة الحب تنمو حتى يفسد القلب، ويعرض عن الفكر فيما أمر به، فيخرج بصاحبه إلى المحن، ويوجب ارتكاب المحظورات والفتن][روضة المحبين، ص92، 94، 95].
ومن أشد الوسائل ضرراً وشراً: اختلاط النساء بالرجال: فإن هذا الاختلاط أنكى وسيلة في الانغماس في الفواحش والقاذورات، وقد كثر في هذا الزمان من يطالب بهذا الاختلاط ويدعو إليه؛ حيث ينادون بمزاحمة النساء للرجال في جميع المجالات والأعمال، زاعمين أنهم يريدون الخير والإصلاح لمجتمعاتهم، ألا أنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون.
قال ابن القيم متحدثاً عن مفاسد الاختلاط: [ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة.. وهو من أسباب الموت العام والطواعين المهلكة. ولما اختلط البغايا بعسكر موسى عليه السلام، وفشت فيهم الفاحشة أرسل الله عليهم الطاعون فمات في يوم واحد سبعون ألفاً، والقصة مشهورة في كتب التفسير؛ فمن أعظم أسباب الموت العام كثرة الزنا بسبب تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال، والمشي بينهم متبرجات متجملات][ الطرق الحكمية، ص259].
الانكباب على الشهوات سببه ضعف التوحيد: فإن القلب كلما كان أضعف توحيداً، وأقل إخلاصاً لله تعالى كان أكثر فاحشة وشهوة [انظر: الفوائد، لابن القيم، ص75]. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة: [وهذا-أي: العشق والشهوات- إنما يبتلى به أهل الإعراض عن الإخلاص لله الذين فيهم نوع من الشرك، وإلا فأهل الإخلاص، كما قال الله تعالى في حق يوسف عليه السلام:{...كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ[24]}[سورة يوسف]. فامرأة العزيز كانت مشركة فوقعت مع تزوجها فيما وقعت فيه من السوء، ويوسف عليه السلام مع عزوبته، ومراودتها له، واستعانتها عليه بالنسوة، وعقوبتها له بالحبس على العفة، عصمه الله بإخلاصه له؛ تحقيقاً لقوله:{ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ[82]إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ[83]}[سورة ص]، قال تعالى:{ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ[42]}[سورة الحجر]. والغي هو اتباع الهوى][ مجموع الفتاوى، 51/421].
الافتتان بالنساء والولع بهن يورث أنواعاً من العقوبات والمفاسد في الدنيا والآخرة:
تحدث شيخ الإسلام ابن تيمية عن عقوبات الشهوة المحرمة، فكان مما قاله: [فأما من استعبد قلبه صورة محرمة: امرأة أو صبي، فهذا هو العذاب الذي لا يَدان فيه، وهؤلاء من أعظم الناس عذاباً وأقلهم ثواباً؛ فإن العاشق لصورة إذا بقي قلبه متعلقاً بها، مستعبَداً لها، اجتمع له من أنواع الشر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد. ومن أعظم هذا البلاء إعراض القلب عن الله؛ فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله والإخلاص له، لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك، ولا ألذ ولا أطيب][ مجموع الفتاوى، 10/187].
وقال ابن القيم: [وليعلم اللبيب أن مدمني الشهوات يصيرون إلى حالة لا يلتذون بها، وهم مع ذلك لا يستطيعون تركها؛ لأنها قد صارت عندهم بمنزلة العيش الذي لا بد لهم منه، ولهذا ترى مدمن الخمر والجماع لا يلتذ بهما عشر معشار من يفعله نادراً في الأحيان][روضة المحبين، ص470].
علاج شهوة النساء:
بعد أن فصّلنا الحديث عن هذه الشهوة نورد علاجها وسبيل النجاة منها، وقد بسط أبو الفرج ابن الجوزي في 'ذم الهوى' وابن القيم في 'روضة المحبين' الحديث عن العلاج، قال ابن الجوزي: [فإن تكرار النظر قد نقش صورة المحبوب في القلب نقشاً متمكناً؛ وعلامة ذلك: امتلاء القلب بالحبيب؛ فكأنه يراه حالاّ في الصدر، وكأنه يضمه إليه عند النوم ويحادثه في الخلوة، فاعلم أن سبب هذا الطمع في نيل المطلوب، وكفى بالطمع مرضاً، وقلّ أن يقع الفسق إلا في المطموع فيه؛ فإن الإنسان لو رأى زوجة الملك فهويها لم يكد قلبه يتعلق بها؛ لأجل اليأس من مثلها. فأما من طمع في شيء فإن الطمع يحمله على طلبه، ويعذّبه إن لم يدركه.. وعلاج هذا المرض: العزم القوي على البعد عن المحبوب، والقطع الجازم على غض البصر عنه، وهجران الطمع فيه، وتوطين النفس على اليأس منه].
وقال في موضع آخر: [ومما يُداوى به الباطن أن تفكّر، فتعلم أن محبوبك ليس كما في نفسك، فأعمل فكرك في عيوبه تَسْلُ؛ فإن الآدمي محشوّ بالأنجاس والأقذار، وإنما يرى العاشق معشوقه في حال الكمال، ولا يُصور له الهوى عيباً؛ لأن الحقائق لا تنكشف إلا مع الاعتدال، وسلطان الهوى حاكم جائر يغطي المعايب، فيرى العاشق القبيح من معشوقه حسناً. ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه : [إذا أعجبت أحدَكم امرأةٌ فليذكر مناتنها].
وأما ما حرّره ابن القيم في سبيل التخلص من شراك هذه الشهوات، فنختار منها بعضها:
فمن ذلك قوله:[التفكر في أنه لم يُخلق للهوى، وإنما هُيّئ لأمر عظيم لا يناله إلا بمعصيته للهوى كما قيل:
قد هيؤوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهملِ
[أن يأنف لنفسه من ذل طاعة الهوى؛ فإنه ما أطاع أحد هواه قط إلا وجد في نفسه ذلاّ، ولا يغتر بصولة أتباع الهوى وكِبرهم؛ فهم أذل الناس بواطنَ، قد جمعوا بين خصلتي الكبر والذل].
[أن يعلم أن الهوى ما خالط شيئاً إلا أفسده، فإن وقع في العلم أخرجه إلى البدعة والضلالة وصار صاحبه من جملة أهل الأهواء، وإن وقع في الزهد أخرج صاحبه إلى الرياء ومخالفة السنة، وإن وقع في الحكم أخرج صاحبه إلى الظلم وصدّه عن الحق، وإن وقع في الولاية والعزل أخرج صاحبه إلى خيانة الله والمسلمين حيث يولّي بهواه ويعزل بهواه].
[إن اتباع الهوى يغلق عن العبد أبواب التوفيق، ويفتح عليه أبواب الخذلان، فتراه يلهج بأن الله لو وفّقه لكان كذا وكذا، وقد سدّ على نفسه طرق التوفيق باتباعه هواه. قال الفضيل بن عياض: من استحوذ عليه الهوى واتباع الشهوات انقطعت عنه موارد التوفيق].
[إن التوحيد واتباع الهوى متضادان، فإن الهوى صنم ولكل عبد صنم في قلبه بحسب هواه، وإنما بعث الله رسله بكسر الأصنام وعبادته وحده لا شريك له، وليس مراد الله تعالى كسر الأصنام المجسّدة وترك الأصنام التي في القلب، بل المراد كسرها من القلب أولاً].
[إن لكل عبد بداية ونهاية، فمن كانت بدايته اتباع الهوى، كانت نهايته الذل والصغار والحرمان والبلاء المتبوع بحسب ما اتبع هواه، بل يصير له ذلك في نهايته عذاباً يُعذّب به في قلبه كما قال القائل:
مآرب كانت في الشباب لأهلها عِذاباً فصارت في المشيب عَذاباً
فلو تأملت حال كل ذي حالة سيئة زرية لرأيت بدايته الذهاب مع هواه وإيثاره على عقله، ومن كانت بدايته مخالفة هواه وطاعة داعي رشده كانت نهايته العز والشرف والغنى والجاه عند الله وعند الناس. قيل للمهلب ابن أبي صفرة: بِمَ نلت ما نلت؟ قال: بطاعة الحزم وعصيان الهوى. فهذا في بداية الدنيا ونهايتها، وأما الآخرة فقد جعل الله سبحانه الجنة نهاية من خالف هواه، والنار نهاية من اتبع هواه].
وبالجملة: فإنه ما من داء إلا وله دواء عَلِمه من علمه، وَجهِله من جهله، والمتعيّن على من ابتلي بشيء من هذه الشهوات أن يبادر إلى أسباب النجاة ووسائلها.. بالعزيمة الصادقة، والصبر والمصابرة، وعلو الهمة، والاشتغال بمعالي الأمور، والابتعاد عن سفاسفها، والمجاهدة في ذات الله، ونهي النفس عن الهوى وإصلاح الخواطر والإرادات، وصحبة الصالحين، ودوام التضرع إلى الله والانكسار بين يديه سبحانه.
شهوة المال:
استولى على أفئدة كثير من الناس الولع بالمال، فأُشربوا حبه والتعلق به، فاستعبدهم الدرهم والدينار، وصار مقصودهم وجلّ حديثهم واهتمامهم، فإن أحبوا فلا يحبون إلا لأجل المال، وإن أبغضوا فلا يبغضون إلا لأجل المال: إن أُعطوا رضوا، وإن لم يُعطَوْا إذا هم يسخطون.
ولقد ذمّ الله تعالى الدنيا في كتابه في غير موضع، كقوله تعالى:{...وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ[20]}[سورة الحديد]. وأما الأحاديث في ذم الدنيا وفضل الزهد، فكثيرة جداً؛ منها حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جَلَسَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ فَقَالَ: [إِنِّ مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا]رواه البخاري ومسلم.
و قال صلى الله عليه وسلم: [قَالَ تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ]رواه البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ] رواه الترمذي وأحمد.
وعن الحسن البصري قال: [أهينوا الدنيا فو الله لأهنأ ما تكون إذا أهنتها]. وكان يحلف بالله ما أعز أحدٌ الدرهمَ إلا أذله الله.
ولابن القيم رحمه الله كلام نفيس في الترغيب بالزهد في الدنيا، والإقبال على الآخرة، نورد منه ما ذكره في 'عدة الصابرين': [جميع الأمم المكذبة لأنبيائهم إنما حملهم على كفرهم وهلاكهم حب الدنيا، فإن الرسل لما نهوهم عن الشرك والمعاصي التي كانوا يكسبون بها الدنيا حملهم حبها على مخالفتهم وتكذيبهم؛ فكل خطيئة في العالم أصلها حب الدنيا... فحب الدنيا والرياسة هو الذي عمر النار بأهلها، والزهد في الدنيا والرياسة هو الذي عمر الجنة بأهلها، والسكر بحب الدنيا أعظم من السكر بشرب الخمر بكثير، وصاحب هذا السكر لا يفيق منه إلا في ظلمة اللحد... والدنيا تسحر العقول أعظم سحر.
قال مالك بن دينار:'اتقوا السحّارة، اتقوا السحّارة؛ فإنها تسحر قلوب العلماء'. وأقل ما في حبها أنه يلهي عن حب الله وذكره، ومن ألهاه ماله عن ذكر الله تعالى فهو من الخاسرين، وإذا لها القلب عن ذكر الله سكنه الشيطان وصرفه حيث أراد].
من أوجه الحرص على المال:
والحرص على المال يكون على وجهين؛ كما قرر الحافظ ابن رجب بقوله: [أحدهما: شدة محبة المال مع طلبه من وجوه مباحة، والمبالغة في طلبه والجد في تحصيله واكتسابه من وجوهه مع الجهد والمشقة...ولو لم يكن في الحرص على المال إلا تضييع العمر الشريف فيما لا قيمة له، وقد يُمكّن صاحبه فيه اكتساب الدرجات العلى، والنعيم المقيم، فضيعه بالحرص في طلب رزق مضمون مقسوم لا يأتي منه إلا ما قُدّر وقُسم؛ ثم لا ينتفع به بل يتركه لغيره ويرتحل عنه، فيبقى حسابه عليه ونفعه لغيره، فيجمع لمن لا يحمده، ويقدم على من لا يعذره لكفاه بذلك ذماً للحرص؛ فالحريص يضيع زمانه الشريف، ويخاطر بنفسه في الأسفار وركوب الأخطار لجمع مال ينتفع به غيره.
النوع الثاني من الحرص على المال: أن يزيد على ما سبق ذكره في النوع الأول، حتى يطلب المال من الوجوه المحرمة، ويمنع الحقوق الواجبة، فهذا من الشح المذموم، قال الله تعالى:{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[16]}[سورة التغابن].
وفي صحيح مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ]].
وإنما يصير حب المال مذموماً إذا كان سبباً في ارتكاب المعاصي، أو ترك الواجبات، يقول شيخ الإسلام في هذا الصدد: [حب المال والشرف يفسد الدين، والذي يعاقب عليه الشخص هو الحب الذي يدعو إلى المعاصي مثل الظلم والكذب والفواحش، ولا ريب أن فرط الحرص على المال والرياسة يوجب ذلك، أما مجرد حب القلب إذا كان الإنسان يفعل ما أمر الله به ويترك ما نهى عنه، ويخاف مقام ربه، وينهى النفس عن الهوى؛ فإن الله تعالى لا يعاقب على مثل هذا إذا لم يكن معه عمل.
وجمع المال إذا قام فيه بالواجبات ولم يكتسبه من الحرام لا يعاقب عليه، لكن إخراج الفضل والاقتصار على الكفاية أفضل وأسلم، وأفرغ للقلب وأجمع للهم، وأنفع للدنيا والآخرة].
وينبغي التوسط إزاء المال بين الشره والانهماك عليه، وبين تركه والإعراض عنه: كما في حديث أَبَي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: [لَا وَاللَّهِ مَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ إِلَّا مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا] فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ فَصَمَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: [كَيْفَ قُلْتَ] قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ الْخَيْرَ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ أَوَ خَيْرٌ هُوَ إِنَّ كُلَّ مَا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرِ أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَلَأَتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ الشَّمْسَ ثَلَطَتْ أَوْ بَالَتْ ثُمَّ اجْتَرَّتْ فَعَادَتْ فَأَكَلَتْ فَمَنْ يَأْخُذْ مَالًا بِحَقِّهِ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ وَمَنْ يَأْخُذْ مَالًا بِغَيْرِ حَقِّهِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ]رواه البخاري ومسلم.
وقد شرح ابن القيم هذا الحديث وبيّن المسلك الوسط تجاه المال فقال: [قوله: [ إِنَّ كُلَّ مَا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ] هذا من أحسن التمثيل المتضمن للتحذير من الدنيا والانهماك عليها والمسرة فيها، وذلك أن الماشية يروقها نبت الربيع فتأكل منه بأعينها فربما هلكت حبطاً-والحبط انتفاخ بطن الدابة من الامتلاء أو من المرض- ، فكذلك الشَرِه في المال يقتله شرهه وحرصه، فإن لم يقتله قارب أن يقتله، وهو قوله: [أَوْ يُلِمُّ] وكثير من أرباب الأموال إنما قتلهم أموالهم؛ فإنهم شرهوا في جمعها، واحتاج إليها غيرهم، فلم يصلوا إليها إلا بقتلهم، أو ما يقاربه من إذلالهم وقهرهم.
وقوله: [ إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرِ] هذا تمثيل لمن أخذ من الدنيا حاجته، مثّله بالشاة الآكلة من الخضر بقدر حاجتها، أكلت حتى امتلأت خاصرتاها... وفي قوله: [اسْتَقْبَلَتْ الشَّمْسَ ثَلَطَتْ أَوْ بَالَتْ] ثلاث فوائد: أحدها: أنها لما أخذت حاجتها من المرعى تركته وبركت مستقبلة الشمس لتستمرئ بذلك ما أكلته. الثانية: أنها أعرضت عما يضرها من الشره في المرعى، وأقبلت على ما ينفعها من استقبال الشمس التي يحصل لها بحرارتها إنضاح ما أكلته وإخراجه.
الثالثة: أنها استفرغت بالبول والثلط ما جمعته من المرعى في بطنها، فاستراحت بإخراجه، ولو بقي فيها لقتلها، فكذلك جامع المال مصلحته أن يفعل به كما فعلت هذه الشاة... وفي هذا الحديث إشارة إلى الاعتدال والتوسط بين الشره في المرعى القاتل بكثرته، وبين الإعراض عنه وتركه بالكلية فتهلك جوعاً. وتضمّن الخبر أيضاً إرشاد المكثر من المال إلى ما يحفظ عليه قوته وصحته في بدنه وقلبه وهو الإخراج منه وإنفاقه ولا يحبسه فيضره حبسه][عدة الصابرين، ص 198، 199].
وإذا تقررت هذه الوسطية تجاه المال فإن على العلماء والدعاة خصوصاً أن يُعْنَوْا بتحقيق الكفاف والاستغناء عن الناس كما يُعْنَوْا بالزهد والتقلل من الدنيا؛ فإن استغناء العلماء عن الناس عموماً والحكام خصوصاً من أعظم الأسباب في حفظ مكانة العلماء وعظم شأنهم، يقول سفيان الثوري رحمه الله: [لأن أخلّف عشرة آلاف درهم أحاسب عليها أحب إليّ من أن أحتاج إلى الناس... ولولا هذه الدراهم لتمندل بنا هؤلاء الملوك].
ويقول ابن الجوزي- حاثاً على الاستغناء عن الناس-: [ليس في الدنيا أنفع للعلماء من جمع المال للاستغناء عن الناس، فإنه إذا ضم إلى العلم حيز الكمال، وإن جمهور العلماء شغلهم العلم عن الكسب، فاحتاجوا إلى ما لا بد منه، وقلّ الصبر فدخلوا مداخل شانتهم وإن تأوّلوا فيها...ولقد رأينا جماعة من المتصوفة والعلماء يَغْشَون الولاة لأجل نيل ما في أيديهم؛ فمنهم من يداهن ويرائي، ومنهم من يمدح بما لا يجوز، ومنهم من يسكت عن منكرات إلى غير ذلك من المداهنات، وسببها الفقر، فعلمنا أن كمال العز وبُعد الرياء إنما يكون في البعد عن العمال الظّلَمَة، ولم نرَ من صح له هذا إلا في أحد رجلين:
أما من كان له مال كسعيد بن المسيب كان يتجر في الزيت وغيره، وسفيان الثوري كانت له بضائع، وابن المبارك. وأما من كان شديد الصبر قنوعاً بما رزق وإن لم يكفه كبشر الحافي وأحمد بن حنبل؛ ومتى لم يجد الإنسان كصبر هذين، ولا كمال أولئك، فالظاهر تقلبه في المحن والآفات، وربما تلف دينه. فعليك يا طالب العلم بالاجتهاد في جمع المال للغنى عن الناس؛ فإنه يجمع لك دينك، فما رأينا في الأغلب منافقاً في التدين والتزهد والتخشع، ولا آفة طرأت على عالم إلا بحبّ الدنيا، وغالب ذلك الفقر، فإن كان من له ما يكفيه ثم يطلب بتلك المخالطة الزيادة فذلك معدود في أهل الشّرَهِ، خارج عن حيّز العلماء].
والمقصود: أن على العبد أن يقنع بالكفاف من هذا المال، مما يحتاجه في مطعمه ومشربه ومسكنه وملبسه ونحو ذلك، وأن يطلب ذلك من الله تعالى وحده ويرغب إليه فيه، وأن لا يكون سائلاً للمال بلسانه إلا لضرورة، أو مستشرفاً إليه بقلبه..وأما ما لا يحتاج إليه العبد فلا ينبغي له الاشتغال به؛ لأن ذلك يؤول إلى تعلق القلب بالمال واستعباده له، كما يفوت عمره في تحصيل رزق مقسوم، وقد يحمله الحرص على المال على اكتسابه بالحرام ومنع الحقوق الواجبة.
شهوة الرياسة:
شهوة حب الرياسة والمنصب إحدى الشهوات التي استعبدت كثيراً من الناس وأحكمت على أفئدتهم، فصارت الولايات والمناصب وما يتبعها من الشهرة والظهور مقصودهم ومرادهم. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ]رواه الترمذي والدارمي وأحمد.
يقول ابن رجب رحمه الله في شرح هذا الحديث: [فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن حرص المرء على المال والشرف إفساد لدينه ليس بأقل من إفساد الذئبين لهذه الغنم، بل إما أن يكون مساوياً وإما أكثر، يشير أنه لا يسلم من دين المسلم مع حرصه على المال والشرف في الدنيا إلا القليل، كما أنه لا يسلم من الغنم مع إفساد الذئبين المذكورين فيها إلا القليل. فهذا المثل العظيم يتضمن غاية التحذير من شر الحرص على المال والشرف في الدنيا].
إلى أن قال: [وأما حرص المرء على الشرف فهو أشد إهلاكاً من الحرص على المال؛ فإن طلب شرف الدنيا والرفعة فيها، والرياسة على الناس والعلو في الأرض أضر على العبد من طلب المال، وضرره أعظم والزهد فيه أصعب؛ فإن المال يبذل في طلب الرياسة والشرف].
ثم ذكر رحمه الله أقسام الحرص على الشرف فقال: [والحرص على الشرف قسمان:
أحدها: طلب الشرف بالولاية والسلطان والمال، وهذا خطر جداً، وهو في الغالب يمنع خير الآخرة وشرفها وكرامتها وعزها. قال الله تعالى :{تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُواً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[83]}[سورة القصص]، وقلّ من يحرص على رياسة الدنيا بطلب الولايات فيوفق بل يوكَل إلى نفسه]. إلى أن قال: [ومن دقيق آفات حب الشرف: طلب الولايات والحرص عليها، وهو باب غامض لا يعرفه إلا العلماء بالله العارفون به المحبون له...
القسم الثاني: طلب الشرف والعلو على الناس بالأمور الدينية كالعلم والعمل والزهد؛ فهذا أفحش من الأول، وأقبح وأشد فساداً وخطراً؛ فإن العلم والعمل والزهد إنما يُطلب به ما عند الله من الدرجات العلى والنعيم المقيم، والقربى منه والزلفى لديه...].
ومما يؤكد خطر هذه الشهوة أن جنس بني آدم مولع بحب الرياسة والظهور، كما بيّنه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: [إن الإنسان إذا اعتبر وتعرف نفسه والناس؛ رأى الواحد يريد نفسه أن تطاع وتعلو بحسب الإمكان، والنفوس مشحونة بحب العلو والرئاسة بحسب إمكانها، فتجده يوالي من يوافقه على هواه، ويعادي من يخالفه في هواه، وإنما معبوده ما يهواه وما يريده].
إن حب الرئاسة وطلبها لا ينفك عن مفاسد متعددة وشرور متنوعة، وقد أشار ابن رجب إلى بعضها بقوله: [إن حب المال والرئاسة والحرص عليهما يفسد دين المرء حتى لا يبقى منه إلا ما شاء الله... والنفس تحب الرفعة والعلو على أبناء جنسها، ومن هنا نشأ الكبر والحسد].
وذكر ابن القيم رحمه الله بعض مفاسد هذه الشهوة، فقال: [إن طلاب الرياسة ليسعون في تحصيلها لينالوا بها أغراضهم من العلو في الأرض، وتعبّد القلوب لهم، وميلها إليهم، ومساعدتهم لهم على جميع أغراضهم مع كونهم عالين عليهم قاهرين لهم، فترتب على هذا المطلب من المفاسد ما لا يعلمه إلا الله من البغي والحسد والطغيان والحقد والظلم والفتنة والحمية للنفس دون حق الله، وتعظيم من حقّره الله، واحتقار من أكرمه الله، ولا تتم الرياسة الدنيوية إلا بذلك، ولا تُنال إلا به وبأضعافه من المفاسد، والرؤساء في عمىً عن هذا؛ فإذا كُشف الغطاء تبيّن لهم فساد ما كانوا عليه، ولا سيما إذا حُشِروا في صُوَرِ الذرّ يطؤهم أهل الموقف بأرجلهم إهانة لهم وتصغيراً كما صغّروا أمر الله وحقروا عباده].
إن على أهل العلم وطلابه أن يحذروا من شهوة حب الرياسة والشهرة، فإنه داء عضال ينبغي المسارعة في علاجه بالتوبة إلى الله تعالى، وتزكية النفس ومحاسبتها، يقول سفيان الثوري: [الرياسة أحب إلى القراء من الذهب الأحمر].
وقد تحدث أبو الفرج ابن الجوزي عن أولئك العلماء المولعين بالرياسات والشهرة فقال: [واليوم صارت الرياسات من كل جانب، وما تتمكن الرياسات حتى يتمكن من القلب: الغفلة، ورؤية الخلق، ونسيان الحق؛ فحينئذ تطلب الرياسة على أهل الدنيا. ولقد رأيت من الناس عجباً حتى من يتزيا بالعلم، إن رآني أمشي وحدي أنكر عليّ، وإن رآني أزور فقيراً عظّم ذلك، وإن رآني أنبسط بتبسم نقصت من عينه، فقلت: فوا عجباً هذه كانت طريق الرسول -صلى الله عليه وسلم- والصحابة رضي الله عنهم ، فصارت أحوال الخلق نواميس لإقامة الجاه، لا جَرَمَ واللهِ! سقطتم من عين الحق، فأسقطكم من عين الخلق...فالتفِتوا إخواني إلى إصلاح النيات، وترك التزين للخلق، ولتكن عُمدتكم الاستقامة مع الحق؛ فبذلك صعد السلف وسعدوا].
وفي الختام نسأل الله أن يرزقنا الهدى والتقوى والعفاف والغنى، وأن يجنبنا شهوات الغي ومضلات الهوى، وبالله التوفيق.
من:' عبودية الشهوات' د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
المصدر: مفكرة الإسلام.
ومن المناسب أن نتحدث ابتداءً عن الموقف الصحيح تجاه الشهوات إجمالاً قبل الحديث عن بعض أفرادها تفصيلاً.
إن المسلك العدل إزاء الشهوات وسط: بين أهل الفجور ، وأصحاب الرهبانية؛ فأهل الفجور أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات؛ وأهل الرهبانية حرّموا ما أحل الله من الطيبات. ودين الله يراعي أحوال الناس، ويدرك ما هم عليه من الغرائز والشهوات؛ لذا فهو يبيحها ويعترف بها، لكنه يضبطها ويهذبها.
يقول ابن القيم مقرراً ذلك: [لما كان العبد لا ينفك عن الهوى ما دام حياً فإن هواه لازم له كان الأمر بخروجه عن الهوى بالكلية كالممتنع، ولكن المقدور له والمأمور به أن يصرف هواه عن مراتع الهَلَكة إلى مواطن الأمن والسلامة؛ مثاله أن الله لم يأمره بصرف قلبه عن هوى النساء جملة؛ بل أمره بصرف ذلك إلى نكاح ما طاب له منهن من واحدة إلى أربع، ومن الإماء ما شاء، فانصرف مجرى الهوى من محل إلى محل، وكانت الريح دبوراً فاستحالت صباً][ روضة المحبين، ص11].
واتباع الشهوات والانكباب عليها يؤول إلى استيلائها على القلب، فيصير القلب عبداً وأسيراً لتلك الشهوات، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [إن المتبعين لشهواتهم من الصور والطعام والشراب واللباس يستولي على قلب أحدهم ما يشتهيه حتى يقهره ويملكه، ويبقى أسير ما يهواه يصرفه كيف تصرّف ذلك المطلوب...].
وإذا كان الإفراط والانهماك في الشهوات مذموماً شرعاً، كما قال عز وجل :{ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا[59]}[سورة مريم] . فكذلك اتباع الشهوات مذموم عقلاً؛ فإن العاقل البصير ينظر في عواقب الأمور، فلا يُؤْثِرُ العاجلة الفانية على الآخرة الباقية، بل ينهى نفسه عن لذةٍ يعقبها ألم، وشهوة تُورث ندماً، وكفى بهذا القدر مدحاً للعقل وذماً للهوى.
وليعلم العبد أن الصبر عن الشهوات وما فيها من الإغراء والبريق والافتتان أيسر من الصبر على عواقب الشهوات وآلامها وحسراتها، كما بينه ابن القيم بقوله: [الصبر عن الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة، فإنها إما أن توجب ألماً وعقوبة، وإما أن تقطع لذة أكمل منها، وإما أن تضيع وقتاً إضاعته حسرة وندامة، وإما أن تثلم عرضاً توفيره أنفع للعبد من ثلمه، وإما أن تُذهب مالاً بقاؤه خير له من ذهابه، وإما أن تضع قدراً وجاهاً قيامه خير من وضعه، وإما أن تسلب نعمة بقاؤها ألذ وأطيب من قضاء الشهوة، وإما أن تطرق لوضيع إليك طريقاً لم يكن يجدها قبل ذلك، وإما أن تجلب هماً وغماً وحزناً وخوفاً لا يقارب لذة الشهوة، وإما أن تنسي علماً ذكره ألذ من نيل الشهوة، وإما أن تُشمت عدواً وتحزن ولياً، وإما أن تقطع الطريق على نعمة مقبلة، وإما أن تحدث عيباً يبقى صفة لا تزول؛ فإن الأعمال تورث الصفات والأخلاق][الفوائد، ص131].
من أنواع الشهوات:
1- شهوة النساء:
وأما عن شهوة النساء، أو بالأحرى شهوة الجنس عموماً فإن المتأمل في أحوال المسلمين فضلاً عمن دونهم يرى سُعاراً تجاه هذه الشهوات، وولوغاً في مستنقعاتها الآسنة، فما أكثر المسلمين العاكفين على متابعة الأطباق الفضائية وشبكة الإنترنت، وقد سمّروا أعينهم في سبيل ملاحقة برامج الفحش، وما أكثر الذين يشدّون رحالهم إلى بلاد الكفر والفجور في سبيل تلبية شهواتهم المحرمة.
لقد تكالب شياطين الإنس والجن مع النفوس الأمّارة بالسوء على إفساد عفاف المسلمين وأخلاقهم، قال سبحانه:{ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا[27]}[سورة النساء].
ومن أرخى لشهوته العنان؛ فإن سعار هذه الشهوة لا حد له ولا انقضاء، والمولع بشهوة الجنس بدون ضابط، أو رادع؛ لا يقف ولا يرعوي، يقول الشيخ علي الطنطاوي: [لو أوتيتَ مال قارون، وجسد هرقل، وواصلتك عشر آلاف من أجمل النساء من كل لون وكل شكل، وكل نوع من أنواع الجمال، هل تظن أنك تكتفي؟ لا، أقولها بالصوت العالي: لا.. أكتبها بالقلم العريض..ولكن واحدة بالحلال تكفيك. لا تطلبوا مني الدليل؛ فحيثما تلفّتم حولكم وجدتم في الحياة الدليل قائماً ظاهراً مرئياً][فتاوى علي الطنطاوي، ص146].
وفي الأدب الكبير، لابن المقفع: [اعلم أن من أوقع الأمور في الدين، وأنهكها للجسد، وأتلفها للمال، وأجلبها للعار، وأزراها للمروءة، وأسرعها في ذهاب الجلالة والوقار: الغرام بالنساء. ومن العجب أن الرجل لا بأس بلبّه ورأيه يرى المرأة من بعيد متلففة في ثيابها، فيصوّر لها في قلبه الحُسن والجمال حتى تعلق بها نفسه من غير رؤية ولا خبر مخبر، ثم لعله يهجم منها على أقبح القبح، وأدمّ الدمامة، فلا يعظه ذلك؛ ولا يقطعه عن أمثالها، ولا يزال مشغوفاً بما لم يذق، حتى لو لم يبق في الأرض غير امرأة واحدة، لظن أن لها شأناً غير شأن ما ذاق، وهذا هو الحمق والشقاء والسفه].
إن أشد الفتن وأعظمها: الفتنة بالنساء، فعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ]رواه البخاري ومسلم. قال الإمام طاووس عند قوله:{...وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا[28]}[سورة النساء] : [إذا نظر إلى النساء لم يصبر]. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: [لم يكن كفر من مضى إلا من قِبل النساء، وهو كائن كفر من بقي من قِبل النساء]. وهاك أخي القارئ حكايتين واقعيتين تكشفان أن من أسباب الكفر بالله: عشق النساء.
فأما الحكاية الأولى: فقد ساقها أبو الفرج ابن الجوزي بقوله: [بلغني عن رجل كان ببغداد يُقال له: صالح المؤذن، أذّن أربعين سنة، وكان يُعرف بالصلاح، أنه صعد يوماً إلى المنارة ليؤذن، فرأى بنت رجل نصراني كان بيته إلى جانب المسجد، فافتتن بها، فجاء فطرق الباب، فقالت: من؟ فقال: أنا صالح المؤذن، ففتحت له، فلما دخل ضمها إليه، فقالت: أنتم أصحاب الأمانات فما هذه الخيانة؟ فقال: إن وافقتني على ما أريد وإلا قتلتك. فقالت: لا؛ إلا أن تترك دينك، فقال: أنا بريء من الإسلام ومما جاء به محمد، ثم دنا إليها، فقالت: إنما قلت هذا لتقضي غرضك ثم تعود إلى دينك، فكُلْ من لحم الخنزير، فأكل، قالت: فاشرب الخمر، فشرب، فلما دبّ الشراب فيه دنا إليها، فدخلت بيتاً وأغلقت الباب، وقالت: اصعد إلى السطح حتى إذا جاء أبي زوّجني منك، فصعد فسقط فمات، فخرجت فلفّته في ثوب، فجاء أبوها، فقصّت عليه القصة، فأخرجه في الليل فرماه في السكة، فظهر حديثه، فرُمي في مزبلة][ ذم الهوى، ص 409].
أما الحكاية الثانية: فذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في حوادث سنة ثمان وسبعين ومائتين ما يلي:
[وفيها توفي عبده بن عبد الرحيم قبحه الله، ذكر ابن الجوزي أن هذا الشقي كان من المجاهدين كثيراً في بلاد الروم، فلما كان في بعض الغزوات والمسلمون يحاصرون بلدة من بلاد الروم، إذ نظر إلى امرأة من نساء الروم في ذلك الحصن، فهويها، فراسلها: ما السبيل إلى الوصول إليك؟ فقالت: أن تتنصر وتصعد إليّ، فأجابها إلى ذلك، فما راع المسلمين إلا وهو عندها، فاغتم المسلمون بسبب ذلك غماً شديداً، وشق عليهم مشقة عظيمة، فلما كان بعد مدة مروا عليه وهو مع تلك المرأة في ذلك الحصن، فقالوا: يا فلان ما فعل قرآنك؟ ما فعل علمك؟ ما فعل صيامك؟ ما فعل جهادك؟ ما فعلت صلاتك؟ فقال: اعلموا أني أُنسيت القرآنَ كله إلا قوله:{ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ[2]ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ[3]}[سورة الحجر]. وقد صار لي فيهم مال وولد][ البداية والنهاية، 11/64].
إن الولوغ في الفواحش وارتكابها له وسائل متعددة وأسباب كثيرة، وأدناها: سماع الأغاني؛ فإن الغناء رقية الزنا، وداعية الفاحشة.
وقال يزيد بن الوليد: [يا بني أمية! إياكم والغناء؛ فإنه ينقص الحياء، ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السّكْر، فإن كنتم لا بد فاعلين فجنّبوه النساء؛ فإن الغناء داعية الزنا][ انظر: إغاثة اللهفان، 1/369]. وقال ابن القيم: [ومن الأمر المعلوم عند القوم أن المرأة إذا استصعبت على الرجل اجتهد أن يُسمعها صوت الغناء، فحينئذٍ تعطي الليان]؛ [أما إذا اجتمع إلى هذه الرقية الدّف والشبابة والرقص بالتخنث والتكسر، فلو حبلت المرأة من صوت لحبلت من هذا الغناء.
فلعمر الله كم من حرة صارت بالغناء من البغايا، وكم من حرّ أصبح به عبداً للصبيان أو الصبايا، وكم من غيور تبدّل به اسماً قبيحاً بين البرايا، وكم من معافى تعرّض له فأمسى وقد حلّت به أنواع البلايا][ إغاثة اللهفان، 1/370، 371].
ومن أشد الوسائل فتكاً: النظر المحرم: فكم من نظرة إلى صورة جميلة في السوق، أو في شاشة، أو مجلة؛ أعقبت فواحش وآلاماً وحسرات. يقول ابن الجوزي: [اعلم-وفقك الله- أن البصر صاحب خبر القلب ينقل إليه أخبار المبصرات، وينقش فيه صورها، فيجول فيها الفكر، فيشغله ذلك عن الفكر فيما ينفعه من أمر الآخرة. ولما كان إطلاق البصر سبباً لوقوع الهوى في القلب، أمرك الشارع بغضّ البصر عما يُخاف عواقبه. قال الله تعالى:{ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ...[30]وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ...[31]}[سورة النور] . ثم أشار إلى مُسبب هذا السبب، ونبّه على ما يؤول إليه هذا الشر بقوله:{...وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ...[30]... وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ...[31]}[سورة النور].][ ذم الهوى، ص106].
وقد تحدث شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن النظر المحرم، وما يؤول إليه من الوقوع في الفواحش.. بل وقد ينتهي بصاحبه إلى الشرك بالله تعالى فكان مما قاله: [وأما النظر والمباشرة فاللمم منها مغفور باجتناب الكبائر، فإن أصر على النظر أو على المباشرة صار كبيرة، وقد يكون الإصرار على ذلك أعظم من قليل الفواحش؛ فإن دوام النظر بالشهوة وما يتصل به من العشق والمعاشرة والمباشرة أعظم بكثير من فساد زنا لا إصرار عليه؛ ولهذا قال الفقهاء في الشاهد العدل: أن لا يأتي كبيرة، ولا يصر على صغيرة. بل قد ينتهي النظر والمباشرة بالرجل إلى الشرك، كما قال تعالى:{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ...[165]}[سورة البقرة] . ولهذا لا يكون عشق الصور إلا من ضعف محبة الله وضعف الإيمان. والله تعالى إنما ذكره في القرآن عن امرأة العزيز المشركة، وعن قوم لوط المشركين][ مجموع الفتاوى، 15/292، 293].
وقال ابن القيم رحمه الله: [وقد جعل الله سبحانه العين مرآة القلب فإذا غضّ العبد بصره، غضّ القلب شهوته وإرادته، وإذا أطلق بصره أطلق القلب شهوته...- إلى أن قال-: والنظرة إذا أثّرت في القلب، فإن عجل الحازم، وحسم المادة من أولها؛ سهُل علاجه، وإن كرر النظر، ونقّب عن محاسن الصورة ونقلها إلى قلب فارغ فنقشها فيه؛ تمكنت المحبة، وكلما تواصلت النظرات كانت كالماء يسقي الشجرة، فلا تزال شجرة الحب تنمو حتى يفسد القلب، ويعرض عن الفكر فيما أمر به، فيخرج بصاحبه إلى المحن، ويوجب ارتكاب المحظورات والفتن][روضة المحبين، ص92، 94، 95].
ومن أشد الوسائل ضرراً وشراً: اختلاط النساء بالرجال: فإن هذا الاختلاط أنكى وسيلة في الانغماس في الفواحش والقاذورات، وقد كثر في هذا الزمان من يطالب بهذا الاختلاط ويدعو إليه؛ حيث ينادون بمزاحمة النساء للرجال في جميع المجالات والأعمال، زاعمين أنهم يريدون الخير والإصلاح لمجتمعاتهم، ألا أنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون.
قال ابن القيم متحدثاً عن مفاسد الاختلاط: [ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة.. وهو من أسباب الموت العام والطواعين المهلكة. ولما اختلط البغايا بعسكر موسى عليه السلام، وفشت فيهم الفاحشة أرسل الله عليهم الطاعون فمات في يوم واحد سبعون ألفاً، والقصة مشهورة في كتب التفسير؛ فمن أعظم أسباب الموت العام كثرة الزنا بسبب تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال، والمشي بينهم متبرجات متجملات][ الطرق الحكمية، ص259].
الانكباب على الشهوات سببه ضعف التوحيد: فإن القلب كلما كان أضعف توحيداً، وأقل إخلاصاً لله تعالى كان أكثر فاحشة وشهوة [انظر: الفوائد، لابن القيم، ص75]. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة: [وهذا-أي: العشق والشهوات- إنما يبتلى به أهل الإعراض عن الإخلاص لله الذين فيهم نوع من الشرك، وإلا فأهل الإخلاص، كما قال الله تعالى في حق يوسف عليه السلام:{...كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ[24]}[سورة يوسف]. فامرأة العزيز كانت مشركة فوقعت مع تزوجها فيما وقعت فيه من السوء، ويوسف عليه السلام مع عزوبته، ومراودتها له، واستعانتها عليه بالنسوة، وعقوبتها له بالحبس على العفة، عصمه الله بإخلاصه له؛ تحقيقاً لقوله:{ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ[82]إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ[83]}[سورة ص]، قال تعالى:{ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ[42]}[سورة الحجر]. والغي هو اتباع الهوى][ مجموع الفتاوى، 51/421].
الافتتان بالنساء والولع بهن يورث أنواعاً من العقوبات والمفاسد في الدنيا والآخرة:
تحدث شيخ الإسلام ابن تيمية عن عقوبات الشهوة المحرمة، فكان مما قاله: [فأما من استعبد قلبه صورة محرمة: امرأة أو صبي، فهذا هو العذاب الذي لا يَدان فيه، وهؤلاء من أعظم الناس عذاباً وأقلهم ثواباً؛ فإن العاشق لصورة إذا بقي قلبه متعلقاً بها، مستعبَداً لها، اجتمع له من أنواع الشر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد. ومن أعظم هذا البلاء إعراض القلب عن الله؛ فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله والإخلاص له، لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك، ولا ألذ ولا أطيب][ مجموع الفتاوى، 10/187].
وقال ابن القيم: [وليعلم اللبيب أن مدمني الشهوات يصيرون إلى حالة لا يلتذون بها، وهم مع ذلك لا يستطيعون تركها؛ لأنها قد صارت عندهم بمنزلة العيش الذي لا بد لهم منه، ولهذا ترى مدمن الخمر والجماع لا يلتذ بهما عشر معشار من يفعله نادراً في الأحيان][روضة المحبين، ص470].
علاج شهوة النساء:
بعد أن فصّلنا الحديث عن هذه الشهوة نورد علاجها وسبيل النجاة منها، وقد بسط أبو الفرج ابن الجوزي في 'ذم الهوى' وابن القيم في 'روضة المحبين' الحديث عن العلاج، قال ابن الجوزي: [فإن تكرار النظر قد نقش صورة المحبوب في القلب نقشاً متمكناً؛ وعلامة ذلك: امتلاء القلب بالحبيب؛ فكأنه يراه حالاّ في الصدر، وكأنه يضمه إليه عند النوم ويحادثه في الخلوة، فاعلم أن سبب هذا الطمع في نيل المطلوب، وكفى بالطمع مرضاً، وقلّ أن يقع الفسق إلا في المطموع فيه؛ فإن الإنسان لو رأى زوجة الملك فهويها لم يكد قلبه يتعلق بها؛ لأجل اليأس من مثلها. فأما من طمع في شيء فإن الطمع يحمله على طلبه، ويعذّبه إن لم يدركه.. وعلاج هذا المرض: العزم القوي على البعد عن المحبوب، والقطع الجازم على غض البصر عنه، وهجران الطمع فيه، وتوطين النفس على اليأس منه].
وقال في موضع آخر: [ومما يُداوى به الباطن أن تفكّر، فتعلم أن محبوبك ليس كما في نفسك، فأعمل فكرك في عيوبه تَسْلُ؛ فإن الآدمي محشوّ بالأنجاس والأقذار، وإنما يرى العاشق معشوقه في حال الكمال، ولا يُصور له الهوى عيباً؛ لأن الحقائق لا تنكشف إلا مع الاعتدال، وسلطان الهوى حاكم جائر يغطي المعايب، فيرى العاشق القبيح من معشوقه حسناً. ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه : [إذا أعجبت أحدَكم امرأةٌ فليذكر مناتنها].
وأما ما حرّره ابن القيم في سبيل التخلص من شراك هذه الشهوات، فنختار منها بعضها:
فمن ذلك قوله:[التفكر في أنه لم يُخلق للهوى، وإنما هُيّئ لأمر عظيم لا يناله إلا بمعصيته للهوى كما قيل:
قد هيؤوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهملِ
[أن يأنف لنفسه من ذل طاعة الهوى؛ فإنه ما أطاع أحد هواه قط إلا وجد في نفسه ذلاّ، ولا يغتر بصولة أتباع الهوى وكِبرهم؛ فهم أذل الناس بواطنَ، قد جمعوا بين خصلتي الكبر والذل].
[أن يعلم أن الهوى ما خالط شيئاً إلا أفسده، فإن وقع في العلم أخرجه إلى البدعة والضلالة وصار صاحبه من جملة أهل الأهواء، وإن وقع في الزهد أخرج صاحبه إلى الرياء ومخالفة السنة، وإن وقع في الحكم أخرج صاحبه إلى الظلم وصدّه عن الحق، وإن وقع في الولاية والعزل أخرج صاحبه إلى خيانة الله والمسلمين حيث يولّي بهواه ويعزل بهواه].
[إن اتباع الهوى يغلق عن العبد أبواب التوفيق، ويفتح عليه أبواب الخذلان، فتراه يلهج بأن الله لو وفّقه لكان كذا وكذا، وقد سدّ على نفسه طرق التوفيق باتباعه هواه. قال الفضيل بن عياض: من استحوذ عليه الهوى واتباع الشهوات انقطعت عنه موارد التوفيق].
[إن التوحيد واتباع الهوى متضادان، فإن الهوى صنم ولكل عبد صنم في قلبه بحسب هواه، وإنما بعث الله رسله بكسر الأصنام وعبادته وحده لا شريك له، وليس مراد الله تعالى كسر الأصنام المجسّدة وترك الأصنام التي في القلب، بل المراد كسرها من القلب أولاً].
[إن لكل عبد بداية ونهاية، فمن كانت بدايته اتباع الهوى، كانت نهايته الذل والصغار والحرمان والبلاء المتبوع بحسب ما اتبع هواه، بل يصير له ذلك في نهايته عذاباً يُعذّب به في قلبه كما قال القائل:
مآرب كانت في الشباب لأهلها عِذاباً فصارت في المشيب عَذاباً
فلو تأملت حال كل ذي حالة سيئة زرية لرأيت بدايته الذهاب مع هواه وإيثاره على عقله، ومن كانت بدايته مخالفة هواه وطاعة داعي رشده كانت نهايته العز والشرف والغنى والجاه عند الله وعند الناس. قيل للمهلب ابن أبي صفرة: بِمَ نلت ما نلت؟ قال: بطاعة الحزم وعصيان الهوى. فهذا في بداية الدنيا ونهايتها، وأما الآخرة فقد جعل الله سبحانه الجنة نهاية من خالف هواه، والنار نهاية من اتبع هواه].
وبالجملة: فإنه ما من داء إلا وله دواء عَلِمه من علمه، وَجهِله من جهله، والمتعيّن على من ابتلي بشيء من هذه الشهوات أن يبادر إلى أسباب النجاة ووسائلها.. بالعزيمة الصادقة، والصبر والمصابرة، وعلو الهمة، والاشتغال بمعالي الأمور، والابتعاد عن سفاسفها، والمجاهدة في ذات الله، ونهي النفس عن الهوى وإصلاح الخواطر والإرادات، وصحبة الصالحين، ودوام التضرع إلى الله والانكسار بين يديه سبحانه.
شهوة المال:
استولى على أفئدة كثير من الناس الولع بالمال، فأُشربوا حبه والتعلق به، فاستعبدهم الدرهم والدينار، وصار مقصودهم وجلّ حديثهم واهتمامهم، فإن أحبوا فلا يحبون إلا لأجل المال، وإن أبغضوا فلا يبغضون إلا لأجل المال: إن أُعطوا رضوا، وإن لم يُعطَوْا إذا هم يسخطون.
ولقد ذمّ الله تعالى الدنيا في كتابه في غير موضع، كقوله تعالى:{...وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ[20]}[سورة الحديد]. وأما الأحاديث في ذم الدنيا وفضل الزهد، فكثيرة جداً؛ منها حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جَلَسَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ فَقَالَ: [إِنِّ مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا]رواه البخاري ومسلم.
و قال صلى الله عليه وسلم: [قَالَ تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ]رواه البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ] رواه الترمذي وأحمد.
وعن الحسن البصري قال: [أهينوا الدنيا فو الله لأهنأ ما تكون إذا أهنتها]. وكان يحلف بالله ما أعز أحدٌ الدرهمَ إلا أذله الله.
ولابن القيم رحمه الله كلام نفيس في الترغيب بالزهد في الدنيا، والإقبال على الآخرة، نورد منه ما ذكره في 'عدة الصابرين': [جميع الأمم المكذبة لأنبيائهم إنما حملهم على كفرهم وهلاكهم حب الدنيا، فإن الرسل لما نهوهم عن الشرك والمعاصي التي كانوا يكسبون بها الدنيا حملهم حبها على مخالفتهم وتكذيبهم؛ فكل خطيئة في العالم أصلها حب الدنيا... فحب الدنيا والرياسة هو الذي عمر النار بأهلها، والزهد في الدنيا والرياسة هو الذي عمر الجنة بأهلها، والسكر بحب الدنيا أعظم من السكر بشرب الخمر بكثير، وصاحب هذا السكر لا يفيق منه إلا في ظلمة اللحد... والدنيا تسحر العقول أعظم سحر.
قال مالك بن دينار:'اتقوا السحّارة، اتقوا السحّارة؛ فإنها تسحر قلوب العلماء'. وأقل ما في حبها أنه يلهي عن حب الله وذكره، ومن ألهاه ماله عن ذكر الله تعالى فهو من الخاسرين، وإذا لها القلب عن ذكر الله سكنه الشيطان وصرفه حيث أراد].
من أوجه الحرص على المال:
والحرص على المال يكون على وجهين؛ كما قرر الحافظ ابن رجب بقوله: [أحدهما: شدة محبة المال مع طلبه من وجوه مباحة، والمبالغة في طلبه والجد في تحصيله واكتسابه من وجوهه مع الجهد والمشقة...ولو لم يكن في الحرص على المال إلا تضييع العمر الشريف فيما لا قيمة له، وقد يُمكّن صاحبه فيه اكتساب الدرجات العلى، والنعيم المقيم، فضيعه بالحرص في طلب رزق مضمون مقسوم لا يأتي منه إلا ما قُدّر وقُسم؛ ثم لا ينتفع به بل يتركه لغيره ويرتحل عنه، فيبقى حسابه عليه ونفعه لغيره، فيجمع لمن لا يحمده، ويقدم على من لا يعذره لكفاه بذلك ذماً للحرص؛ فالحريص يضيع زمانه الشريف، ويخاطر بنفسه في الأسفار وركوب الأخطار لجمع مال ينتفع به غيره.
النوع الثاني من الحرص على المال: أن يزيد على ما سبق ذكره في النوع الأول، حتى يطلب المال من الوجوه المحرمة، ويمنع الحقوق الواجبة، فهذا من الشح المذموم، قال الله تعالى:{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[16]}[سورة التغابن].
وفي صحيح مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ]].
وإنما يصير حب المال مذموماً إذا كان سبباً في ارتكاب المعاصي، أو ترك الواجبات، يقول شيخ الإسلام في هذا الصدد: [حب المال والشرف يفسد الدين، والذي يعاقب عليه الشخص هو الحب الذي يدعو إلى المعاصي مثل الظلم والكذب والفواحش، ولا ريب أن فرط الحرص على المال والرياسة يوجب ذلك، أما مجرد حب القلب إذا كان الإنسان يفعل ما أمر الله به ويترك ما نهى عنه، ويخاف مقام ربه، وينهى النفس عن الهوى؛ فإن الله تعالى لا يعاقب على مثل هذا إذا لم يكن معه عمل.
وجمع المال إذا قام فيه بالواجبات ولم يكتسبه من الحرام لا يعاقب عليه، لكن إخراج الفضل والاقتصار على الكفاية أفضل وأسلم، وأفرغ للقلب وأجمع للهم، وأنفع للدنيا والآخرة].
وينبغي التوسط إزاء المال بين الشره والانهماك عليه، وبين تركه والإعراض عنه: كما في حديث أَبَي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: [لَا وَاللَّهِ مَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ إِلَّا مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا] فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ فَصَمَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: [كَيْفَ قُلْتَ] قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ الْخَيْرَ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ أَوَ خَيْرٌ هُوَ إِنَّ كُلَّ مَا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرِ أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَلَأَتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ الشَّمْسَ ثَلَطَتْ أَوْ بَالَتْ ثُمَّ اجْتَرَّتْ فَعَادَتْ فَأَكَلَتْ فَمَنْ يَأْخُذْ مَالًا بِحَقِّهِ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ وَمَنْ يَأْخُذْ مَالًا بِغَيْرِ حَقِّهِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ]رواه البخاري ومسلم.
وقد شرح ابن القيم هذا الحديث وبيّن المسلك الوسط تجاه المال فقال: [قوله: [ إِنَّ كُلَّ مَا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ] هذا من أحسن التمثيل المتضمن للتحذير من الدنيا والانهماك عليها والمسرة فيها، وذلك أن الماشية يروقها نبت الربيع فتأكل منه بأعينها فربما هلكت حبطاً-والحبط انتفاخ بطن الدابة من الامتلاء أو من المرض- ، فكذلك الشَرِه في المال يقتله شرهه وحرصه، فإن لم يقتله قارب أن يقتله، وهو قوله: [أَوْ يُلِمُّ] وكثير من أرباب الأموال إنما قتلهم أموالهم؛ فإنهم شرهوا في جمعها، واحتاج إليها غيرهم، فلم يصلوا إليها إلا بقتلهم، أو ما يقاربه من إذلالهم وقهرهم.
وقوله: [ إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرِ] هذا تمثيل لمن أخذ من الدنيا حاجته، مثّله بالشاة الآكلة من الخضر بقدر حاجتها، أكلت حتى امتلأت خاصرتاها... وفي قوله: [اسْتَقْبَلَتْ الشَّمْسَ ثَلَطَتْ أَوْ بَالَتْ] ثلاث فوائد: أحدها: أنها لما أخذت حاجتها من المرعى تركته وبركت مستقبلة الشمس لتستمرئ بذلك ما أكلته. الثانية: أنها أعرضت عما يضرها من الشره في المرعى، وأقبلت على ما ينفعها من استقبال الشمس التي يحصل لها بحرارتها إنضاح ما أكلته وإخراجه.
الثالثة: أنها استفرغت بالبول والثلط ما جمعته من المرعى في بطنها، فاستراحت بإخراجه، ولو بقي فيها لقتلها، فكذلك جامع المال مصلحته أن يفعل به كما فعلت هذه الشاة... وفي هذا الحديث إشارة إلى الاعتدال والتوسط بين الشره في المرعى القاتل بكثرته، وبين الإعراض عنه وتركه بالكلية فتهلك جوعاً. وتضمّن الخبر أيضاً إرشاد المكثر من المال إلى ما يحفظ عليه قوته وصحته في بدنه وقلبه وهو الإخراج منه وإنفاقه ولا يحبسه فيضره حبسه][عدة الصابرين، ص 198، 199].
وإذا تقررت هذه الوسطية تجاه المال فإن على العلماء والدعاة خصوصاً أن يُعْنَوْا بتحقيق الكفاف والاستغناء عن الناس كما يُعْنَوْا بالزهد والتقلل من الدنيا؛ فإن استغناء العلماء عن الناس عموماً والحكام خصوصاً من أعظم الأسباب في حفظ مكانة العلماء وعظم شأنهم، يقول سفيان الثوري رحمه الله: [لأن أخلّف عشرة آلاف درهم أحاسب عليها أحب إليّ من أن أحتاج إلى الناس... ولولا هذه الدراهم لتمندل بنا هؤلاء الملوك].
ويقول ابن الجوزي- حاثاً على الاستغناء عن الناس-: [ليس في الدنيا أنفع للعلماء من جمع المال للاستغناء عن الناس، فإنه إذا ضم إلى العلم حيز الكمال، وإن جمهور العلماء شغلهم العلم عن الكسب، فاحتاجوا إلى ما لا بد منه، وقلّ الصبر فدخلوا مداخل شانتهم وإن تأوّلوا فيها...ولقد رأينا جماعة من المتصوفة والعلماء يَغْشَون الولاة لأجل نيل ما في أيديهم؛ فمنهم من يداهن ويرائي، ومنهم من يمدح بما لا يجوز، ومنهم من يسكت عن منكرات إلى غير ذلك من المداهنات، وسببها الفقر، فعلمنا أن كمال العز وبُعد الرياء إنما يكون في البعد عن العمال الظّلَمَة، ولم نرَ من صح له هذا إلا في أحد رجلين:
أما من كان له مال كسعيد بن المسيب كان يتجر في الزيت وغيره، وسفيان الثوري كانت له بضائع، وابن المبارك. وأما من كان شديد الصبر قنوعاً بما رزق وإن لم يكفه كبشر الحافي وأحمد بن حنبل؛ ومتى لم يجد الإنسان كصبر هذين، ولا كمال أولئك، فالظاهر تقلبه في المحن والآفات، وربما تلف دينه. فعليك يا طالب العلم بالاجتهاد في جمع المال للغنى عن الناس؛ فإنه يجمع لك دينك، فما رأينا في الأغلب منافقاً في التدين والتزهد والتخشع، ولا آفة طرأت على عالم إلا بحبّ الدنيا، وغالب ذلك الفقر، فإن كان من له ما يكفيه ثم يطلب بتلك المخالطة الزيادة فذلك معدود في أهل الشّرَهِ، خارج عن حيّز العلماء].
والمقصود: أن على العبد أن يقنع بالكفاف من هذا المال، مما يحتاجه في مطعمه ومشربه ومسكنه وملبسه ونحو ذلك، وأن يطلب ذلك من الله تعالى وحده ويرغب إليه فيه، وأن لا يكون سائلاً للمال بلسانه إلا لضرورة، أو مستشرفاً إليه بقلبه..وأما ما لا يحتاج إليه العبد فلا ينبغي له الاشتغال به؛ لأن ذلك يؤول إلى تعلق القلب بالمال واستعباده له، كما يفوت عمره في تحصيل رزق مقسوم، وقد يحمله الحرص على المال على اكتسابه بالحرام ومنع الحقوق الواجبة.
شهوة الرياسة:
شهوة حب الرياسة والمنصب إحدى الشهوات التي استعبدت كثيراً من الناس وأحكمت على أفئدتهم، فصارت الولايات والمناصب وما يتبعها من الشهرة والظهور مقصودهم ومرادهم. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ]رواه الترمذي والدارمي وأحمد.
يقول ابن رجب رحمه الله في شرح هذا الحديث: [فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن حرص المرء على المال والشرف إفساد لدينه ليس بأقل من إفساد الذئبين لهذه الغنم، بل إما أن يكون مساوياً وإما أكثر، يشير أنه لا يسلم من دين المسلم مع حرصه على المال والشرف في الدنيا إلا القليل، كما أنه لا يسلم من الغنم مع إفساد الذئبين المذكورين فيها إلا القليل. فهذا المثل العظيم يتضمن غاية التحذير من شر الحرص على المال والشرف في الدنيا].
إلى أن قال: [وأما حرص المرء على الشرف فهو أشد إهلاكاً من الحرص على المال؛ فإن طلب شرف الدنيا والرفعة فيها، والرياسة على الناس والعلو في الأرض أضر على العبد من طلب المال، وضرره أعظم والزهد فيه أصعب؛ فإن المال يبذل في طلب الرياسة والشرف].
ثم ذكر رحمه الله أقسام الحرص على الشرف فقال: [والحرص على الشرف قسمان:
أحدها: طلب الشرف بالولاية والسلطان والمال، وهذا خطر جداً، وهو في الغالب يمنع خير الآخرة وشرفها وكرامتها وعزها. قال الله تعالى :{تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُواً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[83]}[سورة القصص]، وقلّ من يحرص على رياسة الدنيا بطلب الولايات فيوفق بل يوكَل إلى نفسه]. إلى أن قال: [ومن دقيق آفات حب الشرف: طلب الولايات والحرص عليها، وهو باب غامض لا يعرفه إلا العلماء بالله العارفون به المحبون له...
القسم الثاني: طلب الشرف والعلو على الناس بالأمور الدينية كالعلم والعمل والزهد؛ فهذا أفحش من الأول، وأقبح وأشد فساداً وخطراً؛ فإن العلم والعمل والزهد إنما يُطلب به ما عند الله من الدرجات العلى والنعيم المقيم، والقربى منه والزلفى لديه...].
ومما يؤكد خطر هذه الشهوة أن جنس بني آدم مولع بحب الرياسة والظهور، كما بيّنه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: [إن الإنسان إذا اعتبر وتعرف نفسه والناس؛ رأى الواحد يريد نفسه أن تطاع وتعلو بحسب الإمكان، والنفوس مشحونة بحب العلو والرئاسة بحسب إمكانها، فتجده يوالي من يوافقه على هواه، ويعادي من يخالفه في هواه، وإنما معبوده ما يهواه وما يريده].
إن حب الرئاسة وطلبها لا ينفك عن مفاسد متعددة وشرور متنوعة، وقد أشار ابن رجب إلى بعضها بقوله: [إن حب المال والرئاسة والحرص عليهما يفسد دين المرء حتى لا يبقى منه إلا ما شاء الله... والنفس تحب الرفعة والعلو على أبناء جنسها، ومن هنا نشأ الكبر والحسد].
وذكر ابن القيم رحمه الله بعض مفاسد هذه الشهوة، فقال: [إن طلاب الرياسة ليسعون في تحصيلها لينالوا بها أغراضهم من العلو في الأرض، وتعبّد القلوب لهم، وميلها إليهم، ومساعدتهم لهم على جميع أغراضهم مع كونهم عالين عليهم قاهرين لهم، فترتب على هذا المطلب من المفاسد ما لا يعلمه إلا الله من البغي والحسد والطغيان والحقد والظلم والفتنة والحمية للنفس دون حق الله، وتعظيم من حقّره الله، واحتقار من أكرمه الله، ولا تتم الرياسة الدنيوية إلا بذلك، ولا تُنال إلا به وبأضعافه من المفاسد، والرؤساء في عمىً عن هذا؛ فإذا كُشف الغطاء تبيّن لهم فساد ما كانوا عليه، ولا سيما إذا حُشِروا في صُوَرِ الذرّ يطؤهم أهل الموقف بأرجلهم إهانة لهم وتصغيراً كما صغّروا أمر الله وحقروا عباده].
إن على أهل العلم وطلابه أن يحذروا من شهوة حب الرياسة والشهرة، فإنه داء عضال ينبغي المسارعة في علاجه بالتوبة إلى الله تعالى، وتزكية النفس ومحاسبتها، يقول سفيان الثوري: [الرياسة أحب إلى القراء من الذهب الأحمر].
وقد تحدث أبو الفرج ابن الجوزي عن أولئك العلماء المولعين بالرياسات والشهرة فقال: [واليوم صارت الرياسات من كل جانب، وما تتمكن الرياسات حتى يتمكن من القلب: الغفلة، ورؤية الخلق، ونسيان الحق؛ فحينئذ تطلب الرياسة على أهل الدنيا. ولقد رأيت من الناس عجباً حتى من يتزيا بالعلم، إن رآني أمشي وحدي أنكر عليّ، وإن رآني أزور فقيراً عظّم ذلك، وإن رآني أنبسط بتبسم نقصت من عينه، فقلت: فوا عجباً هذه كانت طريق الرسول -صلى الله عليه وسلم- والصحابة رضي الله عنهم ، فصارت أحوال الخلق نواميس لإقامة الجاه، لا جَرَمَ واللهِ! سقطتم من عين الحق، فأسقطكم من عين الخلق...فالتفِتوا إخواني إلى إصلاح النيات، وترك التزين للخلق، ولتكن عُمدتكم الاستقامة مع الحق؛ فبذلك صعد السلف وسعدوا].
وفي الختام نسأل الله أن يرزقنا الهدى والتقوى والعفاف والغنى، وأن يجنبنا شهوات الغي ومضلات الهوى، وبالله التوفيق.
من:' عبودية الشهوات' د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
المصدر: مفكرة الإسلام.